فشل نتنياهو في غزة- انتصار المقاومة رغم الإبادة والتدمير

بعد مرور ما يقارب الخمسة عشر شهرًا العصيبة، أو ما يعادل 464 يومًا، من العدوان الغاشم الذي شنّه الكيان الصهيوني، بزعامة بنيامين نتنياهو وبمساندة من قِبل الدول الغربية العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة جو بايدن، أُعلن أخيرًا عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. استهدف هذا العدوان المقاومة الفلسطينية الباسلة متمثلة في كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، واستهدف بشكل أخص الشعب الفلسطيني الصامد، وأمعن في تدمير المنازل والمؤسسات والمشافي في قطاع غزة المحاصر.
خاض الكيان الصهيوني حربًا بريّة ضروسًا على مدار ما يقارب الخمسة عشر شهرًا، كان الهدف المعلن منها هو القضاء التام على قوات المقاومة الفلسطينية الشريفة، هذا بالإضافة إلى تحقيق هدفين آخرين، أولهما إطلاق سراح من وصفوهم بـ "المختطفين" أو الأسرى، وثانيهما فرض تهجير قسري لمئات الآلاف من سكان قطاع غزة، في محاولة لتغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة.
شهدت تلك الفترة حرب إبادة جماعية بشعة، استمرت قرابة الخمسة عشر شهرًا، تمثلت في القتل المتعمد والمنظم للمدنيين العزل، الذين لا يملكون سبل النجاة أو الدفاع عن أنفسهم، والذين تعرضوا لمجازر وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى تدمير شامل للبنية التحتية، حيث تشير التقديرات إلى أن ما يزيد على 80% من المنازل والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات قد سُوّيت بالأرض، في محاولة لطمس معالم الحياة في القطاع.
لقد كانت خمسة عشر شهرًا من القتل الممنهج، أسفرت عن استشهاد ما يقارب الخمسين ألف شهيد، وإصابة ما يزيد على مائة وعشرين ألف جريح، من بينهم أطفال ونساء وشيوخ.
استمر القتل والدمار على مدار تلك الأشهر العصيبة، بشكل يومي بل وساعي، مما استنزف مخزون الكيان الصهيوني من الصواريخ والقذائف، ولولا الدعم اللامحدود والمتواصل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، لما استمرت جريمة الإبادة الجماعية والتدمير الشامل بهذا الشكل المروع.
كل ذلك جرى على الرغم من الضغوط الهائلة التي اندلعت على المستوى العالمي، سواء على المستوى الشعبي أو الدولي، والتي كان من المفترض أن تُوقف حرب الإبادة والتدمير في شهرها الأول أو الأشهر الأولى على أبعد تقدير، لولا العناد الإجرامي المَرَضي الذي تملّك نتنياهو، ولولا الدعم المستمر والمتفاني من الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي سمح لنتنياهو وجيشه بمواصلة العدوان في الحرب البريّة وفي حرب الإبادة البشرية، وذلك من خلال توفير كل أشكال الدعم والغطاء السياسي والإعلامي، والتصدي لكل الاحتجاجات العالمية والضغوط الإنسانية التي تسعى لوقف هذه الجرائم التي تتنافى مع القوانين الدولية والقيم الإنسانية والدينية والأخلاقية.
هنا يبرز السؤال الأهم، بعد أن شاهد العالم أجمع جرائم القتل الجماعي للمدنيين الأبرياء، والتدمير الممنهج الذي طال كل شيء في غزة، كيف انعكس ذلك على سمعة الكيان الصهيوني، الذي بات يُنظر إليه على أنه قاتل للأطفال والمدنيين؟ هذا الكيان الذي أنفق ولا يزال ينفق المليارات من الدولارات، لتجميل صورته أمام العالم، وليظهر بمظهر الدولة التي تحترم القوانين الدولية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلًا عن ادّعائه بأنه وريث المحرقة والناجي من الظلم والاضطهاد الذي مارسه الغرب النازي ضده.
إن العار الذي لحق بالكيان الصهيوني (وبالحضارة الغربية أيضًا) سيكون عارًا تاريخيًا يلاحقه على مر الأيام والسنين، مما سيؤدي حتمًا إلى تحويله إلى "دولة مارقة" فاقدة لشرعية الوجود في فلسطين. هذا الكيان هو أصلًا كذلك، لأنه مشروع استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي، حاول أن يتغطى بقرار التقسيم رقم 181 الصادر عام 1947، والذي أقرّ له بإقامة دويلة في فلسطين، وهو بدوره قرار غير شرعي ومخالف للقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما الذي دفع نتنياهو إلى هذا العناد المستميت، وإلى مواصلة حربيه العدوانيتين على المقاومة والشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تحت ذريعة الردّ على عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟ وهي العملية التي تأتي في سياق حق المقاومة المشروعة في الدفاع عن أرضها وشعبها.
علمًا أن النتيجة التي انتهت إليها تلك الحرب العدوانية، والتي تجسدت في الاتفاق الأخير بتاريخ 15/1/2025، هي الفشل الذريع في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها نتنياهو عند شن الحربين والاستمرار فيهما طوال خمسة عشر شهرًا.
وذلك بالرغم من أن الفشل العسكري في الحرب البريّة كان واضحًا وجليًا منذ الشهر الأول، إن لم يكن منذ الأسبوع الأول.
ولكن نتنياهو، تغاضى عن الخسائر العسكرية المتواصلة في الحرب البريّة، وهو الأمر الذي أشار إليه العديد من الخبراء العسكريين، بمن فيهم خبراء البنتاغون، الذين أكدوا أن هذه الحرب ستكون خاسرة ولن تتمكن من القضاء على حركة حماس أو تحقيق أهدافها.
هذا، وقد بدا منذ الشهر الأول أن حرب الإبادة البشرية والتدمير الهوجائي شبه الشامل للعمار، ستعود بأوخم النتائج وأسوأ سمعة على الكيان الصهيوني.
وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تفسير هذا العناد والإصرار على مواصلة حرب بريّة خاسرة، وحرب إبادة مدمرة للسمعة؟ الجواب يكمن في نتنياهو نفسه، الذي احتمى بمواصلة الحربين للحفاظ على حكومته من استقالة بن غفير وسموتريتش، وأيضًا خوفًا من المحاكمة التي تنتظره بسبب قضايا فساد، فضلًا عن محاسبته بالنسبة إلى مسؤوليته في نجاح عملية طوفان الأقصى.
هذا ما يفسّر انسلاخ نتنياهو عن الواقع، والذي كان يحتم عليه عدم تعريض جيشه لخسارة حرب أمام المقاومة، وعدم تعريض سمعة الكيان الصهيوني لكارثة بسبب حرب الإبادة.
وبهذا غلّب نتنياهو مصالحه الشخصية الضيقة على احترام موازين القوى وتلافي هزيمة عسكرية، كما هو حادث الآن أمامنا في اتفاق الخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2025.
بل إن نتنياهو ما كان ليرضخ لتوقيع هذا الاتفاق وعدم الاستمرار في الحرب، لولا الخوف من دونالد ترامب، الذي أعلن حرصه على عدم تسلّم مسؤولياته الرئاسية إلا بوقف الحرب، التي تستطيع أن تؤدي إلى إطلاق الرهائن، وهو الهدف الأسمى لترامب.
بكلمة أخرى، لا جدال في أن نتنياهو وحكومته وافقا على اتفاق (صفقة ترامب عمليًا)، بسبب تلبية رغبة ترامب، ولم يذهبا إلى الاتفاق بسبب تشكيله انتصارًا عسكريًا وسياسيًا، أو بدافع ما غير الاضطرار إليه، خاصة وقد جاء على الضدّ من هدف نتنياهو في القضاء على المقاومة.
فالمقاومة باقية، وهي تسجّل انتصارات يومية مُبهرة في جباليا، كما في ميدان الحرب البريّة، بل جاء التوقيع مع حماس الباقية حكمًا، بسلاحها المقاوم، ومعها سلاح سرايا القدس (حركة الجهاد الإسلامي)، وآلاف المقاتلين.
فانتصار المقاومة يجب أن يُعلن بأعلى الصوت في هذا الاتفاق.
وهنا لا بدّ من الحذر إزاء الآراء التي ترفض أن تسلّم بانتصار المقاومة، تحت حجّة إبراز ما حدث من جرائم قتل جماعي للمدنيين، وما حدث من دمار شبه شامل. وهو مقياس خاطئ في تحديد من المنتصر ومن المهزوم في حرب دامت خمسة عشر شهرًا.
وذلك في عدم اعتبار فشل نتنياهو وجيش الكيان الصهيوني في تحقيق أيّ من الأهداف التي حُددّت لشنّ الحرب، يُشكل انتصارًا للمقاومة والشعب الفلسطيني في غزة.
بل ويشكّل، بالتالي، انتصارًا لمحور المقاومة، الذي شارك في دعمهما، كما للذين أيّدوا ودعموا ووقفوا إلى جانب المقاومة والشعب في غزة، على كل المستويات ومختلف المواقف والجهود.
بل هو انتصارٌ للذين تظاهروا ضد جرائم الإبادة، كما الذين هتفوا "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
إن قتل المدنيين يفوق في كل حروب التحرير ما يُقتل من جنود وضباط ومقاومين. ومن ثم لا يُعتبر معيارًا للنصر والهزيمة، وإلا وجب اعتبار هتلر هو المنتصر في الحرب العالمية على الحلفاء، خصوصًا على الاتحاد السوفياتي، الذي قدّم ما يزيد على 25 مليونًا، من بينهم عشرون مليونًا من المدنيين.
ويا للهول، إذا حسب البعض القتل الجماعي للمدنيين (الإبادة)، كما هو حادث في غزة، معيارًا لانتصار نتنياهو، بدلًا من اعتباره هزيمة له وجريمة لا تغتفر.